الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشنقيطي: إحداهما: هي قوله هنا: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223]؛ لأن قوله: {فَأْتُواْ} أمر بالإتيان بمعنى الجماع، وقوله: {حَرْثَكُمْ} يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث، يعني بذر الولد بالنطفة، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد، كما هو ضروري. الثانية: قوله تعالى: {فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} [البقرة: 187]، لأن المراد بما كتب الله لكم، الولد، على قول الجمهور، وهو اختيار ابن جرير، وقد نقله عن ابن عباس، ومجاهد، والحكم، وعكرمة والحسن البصري، والسدي، والربيع، والضحاك بن مزاحم. ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل. فالقبل إذن هو المأمور بالمباشرة فيه، بمعنى الجماع، فيكون معنى الآية: فالآن باشروهن، ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد، الذي هو القبل دون غيره، بدليل قوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} [البقرة: 187] يعني الولد. ويتضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى: {أنى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل، سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة أو على جنب، أو غير ذلك، ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. فظهر من هذا أن جابرًا رضي الله عنه يرى أن معنى الآية، فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها. والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع كما عقده صاحب طلعة الأنوار بقوله: اهـ. ثم قال رحمه الله: اعلم أن من روي عنه جواز ذلك كابن عمر، وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين، والمتأخرين، يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر، كما يبينه حديث جابر، والجمع واجب إذا أمكن. اهـ. ثم قال: ولا ينتقض هذا بجواز الجماع في عكن البطن، وفي الفخذين، والساقين، ونحو ذلك مع أن الكل ليس محل حرث. لأن ذلك يسمى استمناء لا جماعًا. والكلام في الجمع. لأن المراد بالإتيان في قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223] الجماع والفارق موجود. لأن عكن البطن ونحوها لا قذر فيها، والدبر فيه القذر الدائم، والنجس الملازم. اهـ. بتصرف يسير. .قال الفخر: فإن قيل: فما المختار من هذه الأقاويل؟. قلنا: قد ظهر عن المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو أن اليهود كانوا يقولون: من أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله تعالى هذا لتكذيب قولهم، فكان الأولى حمل اللفظ عليه، وأما الأوقات فلا مدخل لها في هذا الباب، لأن {أَنّى} يكون بمعنى {متى} ويكون بمعنى {كَيْفَ} وأما العزل وخلافه فلا يدخل تحت {أنّى} لأن حال الجماع لا يختلف بذلك، فلا وجه لحمل الكلام إلا على ما قلنا. اهـ. .قال القرطبي: .قال الفخر: فإن قيل: كيف تعلق هذا الكلام بما قبله؟. قلنا: نقل عن ابن عباس أنه قال: معناه التسمية عند الجماع وهو في غاية البعد، والذي عندي فيه أن قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} جار مجرى التنبيه على سبب إباحة الوطء، كأنه قيل: هؤلاء النسوان إنما حكم الشرع بإباحة وطئهن لكم لأجل أنهن حرث لكم أي بسبب أنه يتولد الولد منها ثم قال بعده: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} أي لما كان السبب في إباحة وطئها لكم حصول الحرث، فأتوا حرثكم، ولاتأتوا غير موضع الحرث، فكان قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} دليلًا على الإذن في ذلك الموضع، والمنع من غير ذلك الموضع، فلما اشتملت الآية عل الإذن في أحد الموضعين، والمنع عن الموضع الآخر، لا جرم قال: {وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ} أي لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة بل كونوا في قيد تقديم الطاعة، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: {واتقوا الله} ثم أكده ثالثًا بقوله: {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا يليق ذكرها إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن شيء لذيذ مشتهى، فثبت أن ما قبل هذه الآية دال على تحريم هذا العمل، وما بعدها أيضًا دال على تحريمه، فظهر أن المذهب الصحيح في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المجتهدين. اهـ. .قال ابن عاشور: وحذف مفعول {وقدموا} اختصارًا لظهوره؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها بمنزلة الثَّقَل الذي يقدمه المسافر. وقوله: {لأنفسكم} متعلق ب {قدموا}، واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها، وقوله: {واتقوا الله} تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات، فمضمونها أعم من مضمون جملة: {وقدموا لأنفسكم} فلذلك كانت هذه تذييلًا. وقوله: {واعلموا أنكم ملاقوه} يجمع التحذير والترغيب، أي فلاقوه بما يرضى به عنكم كقوله: {ووجد الله عنده} [النور: 39] وهو عطف على قوله: {واتقوا الله}. اهـ. .قال الفخر: .قال ابن عاشور: وقوله: {وبشر المؤمنين} تعقيب للتحذير بالبشارة، والمراد: المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» وذِكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان، وجملة: {وبشر المؤمنين}، معطوفة على جملة: {واعلموا أنكم ملاقوه}، على الأظهر من جعل جملة: {نساؤكم حرث لكم}، استئنافًا غير معمولة لقل هو أذى، وإذا جعلت جملة: {نساؤكم} من معمول القول كانت جملة: {قل هو أذى} [البقرة: 222] معطوفة على جملة: {قُلْ هُوَ أَذًى}؛ إذ لا يصح وقوعها مقولا للقول كما اختاره التفتازاني. اهـ. .قال ابن عرفة: قد يتمسك بها المعتزلة في قولهم: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأن المناسب أن كان يقال وبشر المحسنين أو بشّر المتّقين الذين يجتنبون هذا الفعل، فما قال: {وَبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ} دل على أن فاعل هذا الفعل غير مؤمن؟ قال: والجواب أن المراد {المؤمنين} الإيمان الكامل. اهـ. .قال السعدي: وفيها محبة الله للمؤمنين، ومحبة ما يسرهم، واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي. اهـ.
|